دودة قز آدمية!!
|
صخب وضوضاء. حركة دؤوبة. أجساد بشرية تغدو وتروح. تتزاحم وتتدافع... تعرقل سير بعضها بعضا. صفير القطار القادم يقتحم المكان ويزيده صخبا. الأيادي تحلق في الفضاء، الهتافات والنداءات تتراشق في الأفق وتتداخل. تنقطع.. تعود.. تملأ جنبات المحطة من جديد. - اسمح لي أخاي.. قالها بسرعة أخف من البرق.. وبنظرة أسرع. سرقت نظرة إلى محياه.. كنت شاردا.. غارقا.. أسبح أحيانا في مستنقع الحياة الممزوجة بالموت، وأحلق أطوارا في فضاء الجنان المتخيلة.. أنسى الألم حينا.. أتذكر البؤس أحيانا.. أتناسى ما يؤرقني من الفوضى و عدم النظام.. يذكرني ما حوالي. لا ألقي بالا لكل الآدميين الذين يعبثون بجسدي. يتدافعون.. يتزاحمون.. أصير ألعوبة طيعة بين أناملهم التي لا ترحم. نظر خلسة إلي.. حملق.. حدق.. نظر ثالثة.. رابعة.. توقف عن السير.. أوجست منه خيفة.. - لص..!؟ حرامي.. !؟ من الأقارب.. ولا أعرفه.. !؟ تجاهلته.. الحذر يفرضه التعقل في مثل هذه النازلات.. دنوت من الرصيف رويدا رويدا.. توقف عن السير ثانية.. يتبعني.. صار مدانا في محكمة مخيلتي.. أمره مشبوه.. لا يؤتمن.. متهم تصعب تبرئته. ركبت القطار.. حيثما أنزلت خطاي، يضع خطاه.. - تبا.. كان علي أن أحجز تذكرة في الدرجة الأولى لأتقي مثل هؤلاء... جلست، جلس قبالتي.. يسرق نظرات تلو النظرات.. مثله أفعل.. - لا.. لا .. لا.. ليس لصا؛ بهي الطلعة، أنيق المظهر، نقي الهندام... في يده ساعة يدوية، يضع ربطة عنق، على ركبتيه حقيبة... - احذر.. احذر.. ثمة لصوصية راقية.. سرقة حاذقة. غيرت مكان الجلوس.. اخترت عربة أخرى.. يتعقبني كشرطي يطارد مجرما.. - تفو.. يوم حالك.. تحسست جيوب سراويلي.. النقود مازالت تقبع في قلاعها.. فتشت جيب معطفي الداخلي.. أوراقي.. وثائقي هانئة البال، لا تشعر بالجزع مثلي.. - تبا لها.. لا تعلم ما يحدث خارج جحرها الدافئ. تفقدت كل جنبات حقيبتي.. كل شيء على أحسن ما يرام. دنا مني..احمر وجهي.. اصفر.. اسود.. ثم اصفر.. ثم احمر... سببت العالم في خيالي.. أرقب راحة يده.. فارغة. - حمدا لله.. - أأنت الأستاذ ادريس..؟ تنفست الصعداء.. - يعرفني..!؟ كيف.. !؟ لا..لا..لا.. هذه مقدمة تنطلي وراءها مكيدة لا فكاك منها.. مزيدا من جرعات الحذر.. مزيدا.. مزيدا.. أجيبه بالنفي..؟ "سبق الميم ترتاح"، بالإيجاب..؟ "رب ضارة نافعة"، لا أجيبه.. بل أسأله.. أستدركه.. "ألف تخميمة وتخميمة ولا ضربة بالمقص". قلت بحزم: - نعم.. ابتسم ابتسامة عريضة انكشفت من وراءها أسنان بيضاء تشع كانعكاس الشمس في مسبح رقراق. - سبق لك ودرست في "بوسلام..؟" يعرفني جيدا.. - أجل.. - ألا تتذكرني..؟ استدرك: - عذرا يا أستاذ.. السنون، لا شك، محت ملامحي الطفولية. تفرست في ملامحه.. نظرت.. حدقت.. حملقت.. عبست.. قطبت جبيني.. لم أجن شيئا.. تراءت لي القطوف قاصية. - كنت صبيا، ربما، حين كنت مدرسا هناك؟ - أكيد.. أضاف: - كنت تلميذك في الصف الأول. - أوّاه.. (تمتمت) سافرت على ظهر براق إلى الأيام الخوالي، تراءت لي أشباحهم بضبابية.. هم لا يتجاوزون عشرة ذكران..أتذكر عبثهم الصبياني.. براءتهم الطفولية.. ضحكهم.. بكاءهم.. تبسمهم.. تفرست في ملامحهم.. لا شيء يتجلى أمامي.. الأيام اغتالت أغلب خلاياي الدماغية. - أتكون.. (صمتت برهة).. لا أدري... أسماء بعضهم تتراقص قدام عيني.. تتداخل.. تتعارك.. تتعانق.. تزاحم بعضها البعض في فضاء مخيلتي.. لا أقدر على اختيار واحد منهم.. قال مبتسما: - أنا محمد سعيد.. إن كنت تتذكر.. غبت، وشردت برهة. فكرت للحظة: - أوووووه.. ابن عبد الوهاب؟! (تساءلت باندهاش) - هو ذاك.. (البشاشة لا تفارق وجهه) أطبقت شفتي العلوية على شفتي السفلى.. تجولت في ملامح محياه.. أسافر إلى الأمس البعيد.. أعود إلى الآن.. أقارن بين ملامح الوجه الذي يتمثل أمامي، وبين ما تبقى في ذاكرتي من قسمات وجهه الأمسي.. لا وجه شبه بينهما.. - صرت رجلا يا محمد سعيد. - لم يولد الطفل إلا ليكون رجلا. - وحكيما صرت..!! ابتسم.. أضاف: - وكل حي ميت يا أستاذ.. - وفيلسوفا تبدو..؟! يبتسم.. سألته: - ماذا تعمل..؟ - محاميا.. تعجبت.. تجمد الدم في عروقي.. تملكتني رعشة خفيفة.. - كيف..!؟ كان أضعف تلاميذي.. كان أغباهم.. أقلهم قابلية للتعلم.. هكذا اعتقدته.. ربما لقصر نظري..وسفاهة رأيي.. ولا شك.. ها هي الأيام تبدي عكس ذلك.. ها هو الزمن يعكس مجاري المياه.. - هنيئا لك..تبدلت الأيام يا محمد سعيد!!! - "وتلك الأيام نداولها بين الناس" قلت بتعجب: - وفقيها..أيضا؟! ابتسم من أعماق فؤاده.. قلت له بكلمات امتزج فيهن الحزن بالفرح: - لقد فندتَ المثل الذي يقول: "إِشَرِّي إِتْبَانْ ڭْسَدِّي"*
|
* مثل أمازيغي مفاده أن الحمل الذي يصير كبشا جيدا يظهر في صغره. ويضرب هذا المثل أيضا للدلالة على أن علامات النبوغ على الطفل تبدو منذ صباه. |
|
يونس البوتكمانتي-المغرب (2013-04-16) |
Partager
|
تعليقات:
|
يونس البوتكمانتي
/المغرب |
2013-08-28 |
أتمنى أنك استمتعت بالقصة صديقي سعيد غاية الاستمتاع.. شكرا وألف شكر لك على التشجيع المثلج للصدر.. محبتي التي لا تنقطع..
|
البريد
الإلكتروني : youness.elboutakmanti@gmail.com |
said ifrad
/sour |
2013-08-26 |
malgré les études en littératures anglaises ... younes ...le grand écrivain de demain arrive a nous livrer de belles écritures en arabe... bravo cher ami et bonne continuation
|
البريد
الإلكتروني : said5llf@gmail.com |
يونس البوتكمانتي
/المغرب |
2013-06-11 |
شكرا على مرورك الطيب "افسانة". بطل القصة محمد سعيد كان في طفولته من المتعلمين المتعثرين إلا أن أستاذه سيُفاجَأ عند لقياه بعد سنين بحصوله على وظيفة المحاماة، بمعنى ان الطفل محمد سعيد الذي ينتمي غلى فصيلة الآدميين استقى مميزات دودة القز التي لا تبقى على حالتها بل تتحول إلى فراشة..
|
البريد
الإلكتروني : youness.elboutakmanti@gmail.com |
افسانة
/المغرب |
2013-06-05 |
قصة طيبة من نوادر القصص التي تكون ذات نهاية سعيدة هذه الأيام. لكن ما أستغربه: ما علاقة دودة القز الآدمية بهذا النص؟
|
البريد
الإلكتروني : |
يونس البوتكمانتي
/المغرب |
2013-04-22 |
كلماتك الرقراقة يا أستاذ ميمون، بل يا أستاذي ميمون، شهد. كلماتك بَرَد يثلج صدري وقلبي.. كلماتك عود ثقاب يؤجج فتيل استماري في الكتابة.. شكرا وألف شكر لك أيها المبدع.. دمت للإبداع ودام الإبداع لك.. مودتي الريفيةالعميقة.
|
البريد
الإلكتروني : youness.elboutakmanti@gmail.com |
ميمون حرش
/المغرب |
2013-04-20 |
الأنيق الوسيم سي يونس، مرحبأ/ أزول..
النص مخملي حقاً.
تعرف أخي؟
في العربة الأولى زيف كثير،أماالعربة الأخيرة من القطار..فالحياة هناك طبيعية بلا ماكياج...
أريد لو أنك سافرت في الدرجة الأولى لما كان ذاك اللقاء،و لأضعتَ علينا، تالياً، هذا النص البديع..
أقرأ لك دائماً،وبعشق..
مع مودة ريفية شامخة..
|
البريد
الإلكتروني : hirchem1@hotmail.com |
|
أضف
تعليقك :
|
|
الخانات * إجبارية |
|